فصل: فصل: اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


فصل‏:‏ اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة

في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال‏:‏ كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه‏؟‏

ونحن نجيب ـ بعون الله تعالى ـ عن هذه الشبهة بجوابين مجمل، ومفصل‏.‏

أما المجمل فيتلخص في شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات، وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض‏.‏

ثانيهما‏:‏ أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلًا من الكتاب والسنة، إما متصلًا، وإما منفصلًا وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما المفصل فعلى كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره‏.‏

ولنمثل بالأمثلة التالية فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أنه قال‏:‏ إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض‏)‏‏.‏ ‏(‏وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏)‏‏.‏ ‏(‏وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن‏)‏‏.‏ نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص398جـ5‏:‏ من مجموع الفتاوي وقال‏:‏ هذه الحكاية كذب على أحمد‏.‏

المثال الأول‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض‏)‏‏.‏

والجواب عنه‏:‏ أنه حديث باطل، لا يثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية‏:‏ هذا حديث لا يصح ‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ حديث باطل فلا يلتفت إليه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بإسناد لا يثبت أ‏.‏هـ وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه‏.‏

لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ والمشهور ـ يعني في هذا الأثر ـ إنما هو عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏)‏‏.‏ ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه فإنه قال‏:‏ ‏(‏يمين الله في الأرض‏)‏ ولم يطلق فيقول‏:‏ يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال‏:‏ ‏(‏فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏)‏ وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى كما هو معلوم عند كل عاقل ا‏.‏هـ ص398 جـ 6مجموع الفتاوي‏.‏

* المثال الثاني‏:‏ ‏(‏قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن‏)‏‏.‏

والجواب‏:‏ أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء‏)‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك‏)‏‏.‏

وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا ‏:‏ إن لله تعالى أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين أصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال ‏:‏ إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره‏.‏ فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض ويقال‏:‏ بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما فقلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول‏.‏

* المثال الثالث‏:‏ ‏(‏إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن‏)‏‏.‏

والجواب‏:‏ أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -قال‏:‏ قال النبي، صلى الله عليه وسلم،‏:‏ ‏(‏ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن‏)‏‏.‏ قال في مجمع الزوائد ‏"‏رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة‏"‏ قلت‏:‏ وكذا قال في التقريب عن شبيب ثقة من الثالثة وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير‏.‏

وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفيسًا، مثل فرج يفرج تفريجًا وفرجًا، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة‏.‏ قال في مقاييس اللغة‏:‏ النفس كل شيء يفرج به عن مكروب فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالىعن المؤمنين يكون من أهل اليمن‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ ص398جـ6 مجموع فتاوي شيخ الإسلام لابن قاسم‏.‏

* المثال الرابع‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏

والجواب أن لأهل السنة في تفسيرها قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف‏:‏ ‏"‏وأولى المعاني بقول الله ـ جل ثناؤه ـ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏ وذكره البغوي في تفسيره‏:‏ قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف‏.‏ وذلك تمسكًا بظاهر لفظ ‏{‏استوى‏}‏‏.‏ وتفويضًا لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله ـ عز وجل ـ‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ ‏"‏أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بإلى‏"‏‏.‏ وقال البغوي‏:‏ ‏"‏أي عمد إلى خلق السماء‏"‏‏.‏

وهذا القول ليس صرفًا للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل ‏{‏استوى‏}‏ اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء‏.‏ فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏ حيث كان معناها يروى بها عباد الله لأن الفعل ‏{‏يشرب‏}‏ اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام‏.‏

* المثالان الخامس، والسادس‏:‏ قوله تعالى في سورة الحديد ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ وقوله في سورة المجادلة ‏:‏ ‏{‏وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏

والجواب‏:‏ أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره‏.‏ ولكن ما حقيقته وظاهره‏؟‏

هل يقال‏:‏ إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطًا بهم، أو حالًا في أمكنتهم‏؟‏

أو يقال‏:‏ إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم‏:‏ علمًا وقدرةً، وسمعًا، وبصرًا، وتدبيرًا، وسلطانًا، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه‏؟‏

ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله ـ عز وجل ـ وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق المصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه‏.‏

وتفسير معية الله ـ تعالى ـ لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك، بل كانوا مجمعين على إنكاره‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مناف لعلو الله تعالىالثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة وإجماع السلف، وما كان منافيًا لما ثبت بدليل كان باطلًا بما ثبت به ذلك المنافي وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلًا بالكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله ـ سبحانه وتعالى ـ‏.‏

ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وقدره حق قدره، وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن يقول‏:‏ إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطًا بهم أو حالًا في أمكنتهم، فضلًا عن أن تستلزم ذلك ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة، جاهل بعظمة الرب ـ جل وعلا ـ‏.‏

فإذا تبين بطلان هذا القول تعين أن يكون الحق هو القول الثاني، وهو أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطًا بهم، علمًا، وقدرة، وسمعًا وبصرًا وتدبيرًا وسلطانًا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه‏.‏

وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب، لأنهما حق، ولا يكون ظاهر الحق إلا حقًا ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبدًا‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103جـ5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم‏:‏ ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف‏:‏ إنه معهم بعلمه ‏.‏ وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته‏.‏ وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏ الآية‏.‏

ولما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لصاحبه في الغار‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ ‏.‏ كان هذا ـ أيضًا ـ حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد‏.‏

ثم قال‏:‏ فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع‏:‏ يقتضي في كل موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر‏.‏ فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق حتى يقال ‏:‏قد صرفت عن ظاهرها ا‏.‏هـ‏.‏

ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق أن الله تعالى ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏

فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعيّة علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه سبحانهمختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض‏.‏

أما في آية الحديد، فقد ذكرها الله تعالى مسبوقة بذكر استوائه على عرشه وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏

فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه لا أنه سبحانه مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض وإلا لكان آخر الآية مناقضًا لأولها الدّالّ على علوه واستوائه على عرشه‏.‏

فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه تعالىمع عباده أنه يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبّر شؤونهم، فيحيي، ويُميت، ويغني، ويُفقر، ويُؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة، ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة ‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص142جـ3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم في فصل الكلام على المعية قال‏:‏ ‏"‏وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

وقال في الفتوى الحموية ص102، 103جـ5 من المجموع المذكور‏:‏ وجِماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته‏.‏

ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك يناقض بعضه بعضًا البتة مثل أن يقول القائل‏:‏ ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏وهو معكم‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قبل وجهه‏)‏ ونحو ذلك فإن هذا غلط‏.‏

وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏

فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث الأوعال‏:‏ ‏(‏والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ أن الله تعالىجمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما‏.‏

وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبّره حتى يتبين لك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ ‏.‏ فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏ وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه، واعلم أن القصور في علمك، أوفي فهمك وأن القرآن لا تناقض فيه‏.‏

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق‏:‏ ‏"‏كما جمع الله بينهما‏"‏‏.‏ وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي ص410ط الإمام في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل‏:‏ إنه مجاز قال‏:‏ ‏"‏وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويًا على عرشه، وقرن بين الأمرين كما قال تعالى‏:‏ ـ وذكر آية سورة الحديد ـ ثم قال‏:‏ فأخبر أنه خلق السموات والأرض، وأنه استوى على عرشه وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في حديث الأوعال‏:‏ ‏(‏والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه‏)‏ فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال‏:‏ ما زلنا نسير والقمر معنا‏.‏ ولا يعد ذلك تناقضًا ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق ففي حق الخالق المحيط بكل شيء مع علوه سبحانه من باب أولى، وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان‏.‏

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم حيث قال‏:‏ وذلك أن كلمة ‏(‏مع‏)‏ في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال‏:‏ ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال‏:‏ هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

وصدق ـ رحمه الله تعالى ـ فإن من كان عالمًا بك مُطَّلعًا عليك، مهيمنًا عليك، يسمع ما تقول، ويرى ما تفعل، ويدبر جميع أمورك، فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة، لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعًا في حقّ الخالق الذي جمع لنفسه بينهما لأن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏.‏

وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص143جـ3 من مجموع الفتاوي حيث قال ‏:‏ وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

‏(‏تتمة‏)‏ انقسم الناس في معيّة الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ يقولون‏:‏ إن معيّة الله لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه‏.‏

وهؤلاء هم السلف ومذهبهم هو الحق كما سبق تقريره‏.‏

القسم الثاني‏:‏ يقولون‏:‏ إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفي علوه واستوائه على عرشه‏.‏

وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، ومذهبهم باطل منكر، أجمع السلف على بطلانه وإنكاره كما سبق‏.‏

القسم الثالث‏:‏ يقولون‏:‏ إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه‏.‏ ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ص229جـ5 من مجموع الفتاوي‏.‏

وقد زعم هؤلاء أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو‏.‏ وكذبوا في ذلك فضلوا، فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول، لأنه باطل ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلًا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم بل المعية تقتضي أيضًا إحاطته بهم سمعًا وبصرًا وقدرة وتدبيرًا ونحو ذلك من معاني ربوبيته‏.‏

‏(‏تنبيه آخر‏)‏ أشرت فيما سبق إلى أن علو الله تعالى ثابت بالكتاب، والسُنة والعقل، والفطرة، والإجماع‏.‏

أما الكتاب فقد تنوعت دلالته على ذلك‏:‏

فتارة بلفظ العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، وكونه في السماء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ ‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏ ‏.‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏.‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏ ‏.‏

وتارة بلفظ صعود الأشياء، وعروجها، ورفعها إليه، كقوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4 ‏]‏ ‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏ ‏.‏

وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏ ‏.‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏

وأما السنة فقد دلت عليه بأنواعها القولية، والفعلية، والإقرارية، في أحاديث كثيرة، تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة، كقوله، صلى الله عليه وسلم، في سجوده‏:‏ ‏(‏سبحان ربي الأعلى‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إنّ رحمتي سبقت غضبي‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏)‏‏.‏ وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أغثنا‏)‏‏.‏ وأنه رفع يده إلى السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أشهد‏)‏‏.‏ وأنه قال للجارية‏:‏ ‏(‏أين الله‏)‏ قالت‏:‏ في السماء فأقرها وقال لسيدها‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏‏.‏

وأما العقل فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص‏.‏ والعلو صفة كمال والسفل نقص، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده‏.‏

وأما الفطرة‏:‏ فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يُمْنَةً ولا يُسْرَةً‏.‏

واسأل المصلين، يقول الواحد منهم في سجوده، ‏(‏سبحان ربي الأعلى‏)‏ أين تتجه قلوبهم حينذاك‏؟‏

وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله تعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وكلامهم مشهور في ذلك نصًّا وظاهرًا، قال الأوزاعي‏:‏ ‏"‏كنا والتابعون متوافرون نقول‏:‏ إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات‏"‏ وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم ومحال أن يقع في ذلك خلاف وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طمس على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية‏.‏

فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلًا وأحق الأشياء وأثبتها واقعًا‏.‏

‏(‏تنبيه ثالث‏)‏ اعلم أيها القارئ الكريم، أنه صدر مني كتابة لبعض الطلبة تتضمن ما قلته في بعض المجالس في معية الله تعالى لخلقه ذكرت فيها‏:‏ أن عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علمًا، وقدرة، وسمعًا، وبصرًا، وسلطانًا، وتدبيرًا، وأنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالًا في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن ذلك لا ينافي معيته لأنه تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى ‏:‏ 11‏]‏ ‏.‏

وأردت بقولي ‏:‏ ‏"‏ذاتية‏"‏ توكيد حقيقة معيته تبارك وتعالى‏.‏

وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض، كيف وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى‏:‏ إنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالًا في أمكنتهم وأنه العلي بذاته وصفاته وإن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وقلت فيها أيضًا ما نصه بالحرف الواحد‏:‏

‏"‏ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها‏"‏ ا‏.‏هـ‏.‏

ولا يمكن لعاقل عرف الله وقدره حق قدره أن يقول‏:‏ إن الله مع خلقه في الأرض وما زلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل مجلس من مجالسي جرى فيه ذكره‏.‏ وأسأل الله تعالى أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏

هذا وقد كتبت بعد ذلك مقالًا نشر في مجلة ‏(‏الدّعوة‏)‏ التي تصدر في الرياض نشر يوم الاثنين الرابع من شهر محرم سنة 1404هـ برقم 911 قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ من أن معية الله تعالى لخلقه حق على حقيقتها، وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط بالخلق فضلًا عن أن يستلزمه ورأيت من الواجب استبعاد كلمة ‏"‏ذاتية‏"‏‏.‏ وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية‏.‏

واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله تعالى في الأرض أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي علوه، أو نفي استوائه على عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة، يجب إنكارها على قائلها كائنًا من كان وبأي لفظ كانت‏.‏

وكل كلام يوهم ـ ولو عند بعض الناس ـ ما لا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء لكن ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه مالا يليق بالله ـ عز وجل ـ ‏.‏

المثالان السابع والثامن، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 85‏]‏ ‏.‏ حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة‏.‏

والجواب‏:‏ أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفًا للكلام عن ظاهره لمن تدبره‏.‏

أما الآية الأولى فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏:‏ 18‏]‏ ‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى‏}‏ دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين‏.‏

وأما الآية الثانية‏:‏ فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ ‏.‏ ثم إن في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 85‏]‏ ‏.‏ دليلًا بينًا على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله ـ تعالى ـ‏.‏

بقي أن يقال‏:‏ فلماذا أضاف الله القرب إليه، وهل جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة‏؟‏

فالجواب‏:‏ أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه، لأن قربهم بأمره، وهم جنوده ورسله‏.‏

وقد جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏ ‏.‏ فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم، بأمر الله تعالى صحت إضافة القراءة إليه تعالى‏.‏ وكذلك جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ‏]‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ ‏.‏ وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى‏.‏

* المثالان التاسع والعاشر‏:‏ قوله تعالى عن سفينة نوح‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏ ‏.‏ وقوله لموسى‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ ‏.‏

والجواب‏:‏ أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا‏؟‏

هل يقال‏:‏ إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله، أو أن موسى، عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله تعالى‏؟‏‏!‏‏!‏‏!‏‏.‏

أو يقال‏:‏ إن ظاهرة أن السفية تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها‏.‏

ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أنه لا يقضتيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي والقرآن الكريم إنما نزل بلغة العرب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏:‏ 195‏]‏ ‏.‏ ولا أحد يفهم من قول القائل‏:‏ فلان يسير بعيني أنه المعنى أن يسير داخل عينه ولا من قول القائل‏:‏ فلان تخَرّج على عيني أن تخرجه كان وهو راكب على عينه ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلًا عن العقلاء‏.‏

الثاني‏:‏ أن هذا ممتنع غاية الامتناع ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا هو حال في شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا‏.‏

فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤن بها‏.‏ وهذا معنى قول بعض السلف بمرأى مني فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام‏.‏

* المثال الحادي عشر‏:‏ قوله تعالى في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعإذًاي لأعيذنه‏)‏‏.‏

والجواب‏:‏ أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق‏.‏

وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته‏.‏

ولكن ما ظاهر هذا الحديث‏؟‏

هل يقال‏:‏ إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولي وبصره ويده ورجله‏؟‏

أو يقال‏:‏ إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله‏؟‏

ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام، بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه وقال‏:‏ ولئن سألني لأعطينه ولئن استعإذًاي لأعيذنه‏"‏‏.‏ فأثبت عبدًا ومعبودًا ومتقربًا ومتقربًا إليه، ومحبًا ومحبوبًا، وسائلًا ومسؤولًا، ومعطيًا ومعطى، ومستعيذًا ومستعاذًا به، ومعيذًا ومعاذًا‏.‏ فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفًا في الآخر أو جزءًا من أجزائه‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن سمع الوليّ وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعًا وبصرًا ويدًا ورجلًا لمخلوق بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير فكيف يسوغ أن يقال‏:‏ إنه ظاهر الحديث القدسي وإنه قد صرف عن هذا الظاهر‏؟‏ سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏.‏

وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصًا وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعًا واتباعًا فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة وهذا غاية التوفيق وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة‏.‏

* المثال الثاني عشر‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال‏:‏ ‏(‏من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏‏.‏

وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه وروى نحوه من حديث أبي هريرة أيضًا وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر‏.‏

وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تصدق أحد بصدقة من طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ إلا أخذها الرحمن بيمينه‏)‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى‏.‏

فقوله في هذا الحديث‏:‏ تقربت منه وأتيته هرولة من هذا الباب‏.‏

والسلف ‏"‏أهل السنة والجماعة‏"‏ يُجْرُون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص466جـ5 من مجموع الفتاوي‏:‏ وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر ا‏.‏هـ‏.‏

فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه‏؟‏

وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل‏؟‏

وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالًا لما يريد على الوجه الذي يليق به‏؟‏

وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي‏:‏ ‏"‏أتيته هرولة‏"‏‏.‏ يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل‏.‏ وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال في الحديث‏:‏ ‏(‏ومن أتاني يمشي‏)‏ ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله - عز وجل - الطالب للوصول إليه لا يتقرب، ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها وتارة بالركوع والسجود ونحوهما وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ ‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله وأن من صدق في الإقبال على ربه وإن كان بطيئًا جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل‏.‏ وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه‏.‏

وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية، لم يكن تفسيره به خروجًا به عن ظاهره ولا تأويلًا كتأويل أهل التعطيل فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد‏.‏

وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف‏.‏

ويجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة أو من ماهيتها كالطواف والسعي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

* المثال الثالث عشر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ ‏.‏

والجواب‏:‏ أن يقال‏:‏ ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال‏:‏ إنها صرفت عنه‏؟‏

هل يقال‏:‏ إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده‏؟‏

أو يقال‏:‏ إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها لم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروف في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم‏.‏

أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن ألاَ ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 182‏]‏ ‏.‏ فإن المراد ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه وإن عمله بغير يده بخلاف ما إذا قال‏:‏ عملته بيدي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ ‏.‏ فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لو كان المراد أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية خلقنا لهم بأيدينا أنعامًا كما قال الله تعالى في آدم‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ ‏.‏ لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏ ‏.‏

وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني وهو أن ظاهر اللفظ أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وعدي بالباء إلى اليد فتنبه للفرق فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم وبه يزول كثير من الإشكالات‏.‏

* المثال الرابع عشر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏

والجواب‏:‏ أن يقال‏:‏ هذه الآية تضمنت جملتين‏:‏

الجملة الأولى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقد أخذ السلف ‏"‏أهل السنة‏"‏ بظاهرها وحقيقتها، وهي صريحة في أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏ ‏.‏

ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ أنهم يبايعون الله نفسه ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته لأول الآية والواقع واستحالته في حق الله تعالى‏.‏

وإنما جعل الله تعالى مبايعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مبايعة له لأنه رسوله قد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله تعالى ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل من أرسله مبايعة لمن أرسله لأنه رسوله المبلغ عنه كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ ‏.‏وفي إضافة مبايعتهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الله تعالى من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد‏.‏

الجملة الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ وهذه أيضًا على ظاهرها وحقيقتها فإن يد الله تعالى فوق أيدي المبايعين لأن يده من صفاته وهو سبحانه فوقهم على عرشه فكانت يده فوق أيديهم‏.‏ وهذا ظاهر اللفظ وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم مبايعة له عز وجل ولا يلزم منها أن تكون يد الله جل وعلا مباشرة لأيديهم ألا ترى أنه يقال‏:‏ السماء فوقنا مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا‏.‏ فيد الله عز وجل فوق أيدي المبايعين لرسوله صلى الله عليه وسلم مع مباينته تعالى لخلقه وعلوه عليهم‏.‏

ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ يد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لأن الله تعالى أضاف اليد إلى نفسه، ووصفها بأنها فوق أيديهم‏.‏ ويد النبي، صلى الله عليه وسلم، عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم، بل كان يبسطها إليهم، فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم، فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم‏.‏

* المثال الخامس عشر‏:‏ قوله تعالى في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏يا بن آدم مرضت فلم تعدني‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏

وهذا الحديث رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب رقم 43 ص1990 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يقول يوم القيامة‏:‏ يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال ‏:‏ يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين‏؟‏ قال‏:‏ أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده‏؟‏‏!‏ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال ‏:‏ يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال‏:‏ يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين‏؟‏ قال‏:‏ استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي‏)‏‏.‏

والجواب‏:‏ أن السلف أخذوا بهذا الحديث ولم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به فقوله تعالى في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏مرضت واستطعمتك واستسقيتك‏)‏ بينه الله تعالى بنفسه حيث قال‏:‏ ‏(‏أما علمت أن عبدي فلانًا مرض وأنه استطعمك عبدي فلان واستسقاك عبدي فلان‏)‏ وهو صريح في أن المراد به مرض عبد من عباد الله واستطعام عبد من عباد الله واستسقاء عبد من عباد الله والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به وهو أعلم بمراده فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه والاستسقاء المضاف إليه، بمرض العبد واستطعامه واستسقائه لم يكن في ذلك صرف للكلام عن ظاهره لأن ذلك تفسير المتكلم به فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداء‏.‏ وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولًا للترغيب والحث كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 11‏]‏ ‏.‏

وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يحرفونها بشبه باطلة هم فيها متناقضون مضطربون‏.‏ إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها كما يقولون لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها ممتنعًا على الله ـ كما زعموا ـ لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث‏.‏ ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعًا على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال‏.‏

ولنكتف بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراسًا لغيرها، وإلا فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة معروفة وهي إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل‏.‏

وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في قواعد نصوص الصفات والحمد لله رب العالمين‏.‏

الخاتمة

إذا قال قائل‏:‏ قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل لأكثر الصفات فكيف يكون مذهبهم باطلًا وقد قيل ‏:‏ إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين‏؟‏‏!‏‏.‏

وكيف يكون باطلًا وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري‏؟‏

وكيف يكون باطلًا وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏؟‏

قلنا‏:‏ الجواب عن السؤال الأول‏:‏ أننا لا نسلّم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق‏.‏

ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر‏.‏

ثم نقول‏:‏ إن إجماع المسلمين قديمًا ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة ‏"‏وهم الصحابة‏"‏ الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل‏.‏

وهم خير القرون بنص الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإجماعُهم حجة ملزمة، لأنه مقتضى الكتاب والسنة وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات‏.‏

والجواب عن السؤال الثاني‏:‏ أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدّعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم ونزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏ ‏.‏ وقال عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏:‏ 121‏]‏ ‏.‏

ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الاقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة‏:‏

المرحلة الأولى ـ مرحلة الاعتزال‏:‏ اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عامًا يقرره ويناظر عليه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم ‏.‏

المرحلة الثانية‏:‏ مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ‏.‏ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص471 من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوي لابن قاسم‏:‏

والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا ومن هؤلاء أصولًا عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

المرحلة الثالثة‏:‏ مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتديًا بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه‏:‏ ‏(‏الإبانة عن أصول الديانة‏)‏ وهو من آخر كتبه أو آخرها‏.‏

قال في مقدمته‏:‏

‏(‏جاءنا ـ يعني النبي، صلى الله عليه وسلم، ـ بكتاب عزيزٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ ‏.‏ إلى أن قال‏:‏ فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوتهم، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏.‏

ثم ذكر - رحمه الله - أصولًا من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال‏:‏

فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والجهمية، والحرورية، والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏؟‏‏.‏

قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها‏:‏ التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل‏)‏ ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية‏.‏

والمتأخرون الذين ينتسبون إليه، أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته، والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات، ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت‏:‏

حي عليم قدير والكلام له ** إرادة وكذاك السمع والبصر

على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها‏.‏

ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما قيل في شأن الأشعرية ص359 من المجلد السادس من مجموع الفتاوي لابن قاسم قال‏:‏

ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأما من قال منهم بكتاب ‏(‏الإبانة‏)‏ الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة وقال قبل ذلك في ص310‏:‏ وأما الأشعرية فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي وآية الدَّين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ا‏.‏هـ‏.‏

وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص312 من شرح الهراس ط الإمام‏:‏

واعلم بأن طريقهـم عكـس الطريـ ** ق المستقيم لمن له عينان

إلى أن قال‏:‏

فاعجب لعميان البصائر أبصروا ** كون المقلد صاحب البرهان

ورأوه بالتقليد أولـى مـن سوا ** ه بغير ما بصر ولا برهان

وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا ** معناهما عجبًا لذي الحرمان

وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ص319جـ2 على تفسير آية استواء الله تعالى على عرشه التي في سورة الأعراف‏:‏ اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلًا في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا‏:‏ يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعًا قال‏:‏ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى والقول فيه بما لا يليق به ـ جل وعلا ـ‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏ ‏.‏ لم يبين حرفًا واحدًا من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وأحرى في العقائد لا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق والنبي صلى الله عليه وسلم، كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله ـ جل وعلا ـ ورسوله، صلى الله عليه وسلم‏.‏

والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث‏.‏ قال‏:‏ وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته‏؟‏ لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر‏.‏

والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله ـ جل وعلا ـ وعدم الإيمان بها مع أنه ـ جل وعلا ـ هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبّهًا أولًا، ومعطلًا ثانيًا فارتكب مالا يليق بالله ابتداء وانتهاء ولو كان قلبه عارفًا بالله كما ينبغي، معظمًا لله كما ينبغي طاهرًا من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدًا للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏.‏ ا‏.‏هـ كلامه ـ رحمه الله‏.‏

والأشعري أبو الحسن - رحمه الله - كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل‏.‏ ومذهب الإنسان ما قاله أخيرًا إذا صرح بحصر قوله فيه كما هي الحال في أبي الحسن كما يعلم من كلامه في الإبانة‏.‏ وعلى هذا فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيرًا وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة، لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه‏.‏

والجواب عن السؤال الثالث من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال فإن الإنسان بشر يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته فقد يكون الرجل دينًا وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك‏.‏

الثاني‏:‏ أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أجل وأعظم وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة‏.‏

وإذا ارتقيت إلى من فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة‏.‏

وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف‏.‏

ونحن لا ننكر أن لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قدم صدق في الإسلام والذب عنه، والعناية بكتاب الله ـ تعالى ـ وبسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطؤوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم ورده لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق‏.‏

ولا ننكر أيضًا أن لبعضهم قصدًا حسنًا فيما ذهب إليه وخفي عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حسن قصد قائله، بل لا بد أن يكون موافقًا لشريعة الله - عز وجل - فإن كان مخالفًا لها وجب رده على قائله كائنًا من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏‏.‏

ثم إن كان قائله معروفًا بالنصيحة والصدق في طلب الحق اعتذر عنه في هذه المخالفة وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته‏.‏

فإن قال قائل ‏:‏ هل تكفرون أهل التأويل أو تفسقونهم‏؟‏

قلنا‏:‏ الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا بل هو إلى الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه‏.‏

والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي‏.‏ ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه لأن في ذلك محذورين عظيمين‏:‏

أحدهما‏:‏ افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به‏.‏

الثاني‏:‏ الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالمًا منه‏.‏ ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏إن كان كما قال وإلا رجعت عليه‏)‏‏.‏ وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال ‏:‏عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه‏)‏‏.‏

وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق‏.‏

الثاني‏:‏ انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع‏.‏

ومن أهم الشروط أن يكون عالمًا بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرًا أو فاسقًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏:‏ 116‏]‏ ‏.‏

ولهذا قال أهل العلم‏:‏ لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يبين له‏.‏

ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور‏:‏منها‏:‏ أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئنانًا به، فلا يكفر حينئذ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ ‏.‏ ومنها أن يغلق عليه فكره، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك‏.‏ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،‏:‏ ‏(‏لله أشد فرحًا بتوبة عبده حتى يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح‏:‏ اللهم أنت عبدي وأنا ربك‏!‏ أخطأ من شدة الفرح‏)‏‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ ص180جـ12 مجموع الفتاوي لابن قاسم‏:‏وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقًا‏.‏ وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

وقال في ص229جـ3 من المجموع المذكور في كلام له‏:‏ ‏"‏هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية‏.‏ وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية‏.‏ وذكر أمثلة ثم قال‏:‏

وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، إلى أن قال‏:‏

والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها، ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا‏.‏

وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال‏:‏ ‏(‏إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏.‏ ففعلوا به ذلك فقال الله‏:‏ ما حملك على ما فعلت‏؟‏ قال ‏:‏ خشيتك فغفر له‏)‏‏.‏

فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك‏.‏

والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أولى بالمغفرة من مثل هذا‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏ وبهذا علم الفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، فليس كل قول أو فعل يكون فسقًا أو كفرًا يحكم على قائله أو فاعله بذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص165جـ35 من مجموع الفتاوي‏:‏ وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال‏:‏ هي كفر قولًا يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال‏:‏ إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قالها‏.‏ إلى أن قال‏:‏ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ ‏.‏ وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ كلامه‏.‏ ولهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقًا ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرًا أو فاسقًا إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه‏.‏ ومن تبين له الحق فأصر على مخالفته تبعًا لاعتقاد كان يعتقده أو متبوع كان يعظمه أو دنيا كان يؤثرها فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق‏.‏ فعلى المؤمن أن يبني معتقده وعمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجعلهما إمامًا له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجهما فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ ‏.‏

وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين وما سواهما إمامًا لا تابعًا‏!‏ وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى‏.‏ لا أتباع الهدى وقد ذم الله هذه الطريق في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏ ‏.‏ والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب‏.‏ ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤال الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف‏.‏ ومن سأل الله تعالى بصدق وافتقار إليه عالمًا بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه هو حري أن يتستجيب الله تعالى له سؤله يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏.‏

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن رأى الحق حقًّا واتبعه، ورأى الباطل باطلًا واجتنبه‏.‏ وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصلحاء مصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب‏.‏ والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذًا ربهم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏

تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404هـ

بقلم مؤلفه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين

بسم الله الرحمن الرحيم

نص الكلمة التي نشرناها في مجلة الدعوة السعودية

في عدد 911 الصادر يوم الاثنين الموافق 4/1/1404هـ

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا ‏.‏

أما بعد‏:‏

فقد كنا تكلمنا في بعض مجالسنا على معنى معية الله تعالى لخلقه، ففهم بعض الناس من ذلك ما ليس بمقصود لنا ولا معتقد لنا فكثر سؤال الناس وتساؤلهم ماذا يقال في معية الله لخلقه‏؟‏

وإننا‏:‏

أ - لئلا يعتقد مخطئ أو خاطئ في معية الله ما لا يليق به‏.‏

ب - ولئلا يتقول علينا متقول مالم نقله أو يتوهم واهم فيما نقوله ما لم نقصده‏.‏

ج - ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن الكريم ووصفه بها نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم‏.‏

نقرر ما يأتي‏:‏

أولا ً‏:‏ معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف، قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏ ‏.‏ وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون‏:‏ ‏{‏لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ ‏.‏ وقال عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ ‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت‏)‏‏.‏ حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وضعفه بعض أهل العلم وسبق قريبًا ما قاله الله تعالى عن نبيه من إثبات المعية له‏.‏

وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه‏.‏

ثانيًا‏:‏ هذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق لقوله تعالى عن نفسه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محدودة‏"‏‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏ نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص87 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم‏.‏

وقال شيخ الإسلام في هذه الفتوى ص102 من المجلد المذكور‏:‏ ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك ـ يعني مما جاء في الكتاب والسنة ـ يناقض بعضه بعضًا ألبتة مثل أن يقول القائل ‏:‏ ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه‏)‏‏.‏ ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث الأوعال‏:‏ ‏(‏والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏‏.‏

وذلك أن كلمة ـ مع ـ في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه يقال‏:‏ ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة، ا‏.‏هـ كلامه‏.‏

ثالثًا‏:‏ هذه المعية تقتضي الإحاطة

بالخلق علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص بشخص أو صف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏

فإن خصت بشخص أو وصف اقتضت مع ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد‏.‏

مثال المخصوصة بشخص قوله تعالى لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ ‏.‏ وقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ ‏.‏

ومثال المخصوصة بوصف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 46‏]‏ ‏.‏ وأمثاله في القرآن الكريم كثيرة‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم قال‏:‏ ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 2‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف‏:‏ إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته‏.‏ قال‏:‏ ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار‏:‏ لا تحزن إن الله معنا، كان هذا أيضًا حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏ ‏.‏ وكذلك قوله لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏‏.‏ هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ففرق بين معنى المعية ومقتضاها وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

وقال محمد بن الموصلي في كتاب ‏(‏استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة‏)‏ لابن القيم في المثال التاسع ص409ط الإمام‏:‏ وغاية ما تدل عليه ـ مع ـ المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور وهذا الاقتران في كل موضع بحسبه ويلزمه لوازم بحسب متعلقه فإذا قيل‏:‏ الله مع خلقه بطريق العموم كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان ذلك خاصًا كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏ ‏.‏ كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة‏.‏

فمعية الله تعالى مع عبده نوعان عامة وخاصة وقد اشتمل القرآن الكريم على النوعين، وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏

وذكر ابن رجب في شرح الحديث التاسع والعشرين من الأربعين النووية‏:‏ أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وأن العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم‏.‏

وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في سورة المجادلة‏:‏ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه قال ‏:‏ ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضًا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانهمطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء‏.‏ ا‏.‏هـ‏.‏